الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***
والفضل في أول الكتاب كان بمعنى الفضيلة. وههنا بمعنى ما بقي كما تقول فضل الوضوء. وإنما تَرْجَمَ به لمعنى الاستغراب فيه، فإن العلمَ يُعْطَى ثم لا يَنْقُص منه، كما أن النبي صلى الله عليه وسلّم أعطى فضل لَبَنِهِ ولم يَنْقُصْ من علمه شيء، بخلاف الأشياء إذا يُعْطَى منها فإنها تنقص ولا كذلك العلم. 82- (ليث بن سعد) وهو إمام مصر. قال الشافعي رحمه الله تعالى وهو عندنا ليس بَأَدْوَنَ من مالك رحمه الله تعالى إلا أن أصحابه أَضَاعُوه. وقال ابنُ خَلِّكان في تاريخه: إني رأيت في بعض الكُتُب أنه حنفيٌّ. عند الطحاوي في «باب القراءة خلف الإمام» إسناد فيه ذلك الليث وهذه صورته: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن قال حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال أخبرني الليث عن يَعْقُوب- وهو أبو يوسف- عن النُّعمان- أي أبي حنيفة- عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» فهذا الإسناد أيضاً قرينة على كونه حنفياً لكونه تلميذَ أبي يوسف. قال الليْثُ: إني كنت أَسْمَع اسم أبي حنيفة رحمه الله تعالى وكنت مولعاً بِلُقِيِّهِ فوجدتُهُ بمكة قد أكب عليه الناس يستفتونه فبينما هم كذلك إذا أتاه آتٍ واستفتاه في حاجته فعَجِبْتُ على جوابه بداهَةً. 82- قوله: (لأرى الرِّيَّ) وهذا من باب المحاورات فلا يقال إنه كيف رأى الرِّيُّ مع كونه غير مرئي؟ حكاية: ذكر الشيخ الأكبر حكاية عن بَقي بن مَخْلَد في «الفصوص» أنه رأى في المنام أن النبي صلى الله عليه وسلّم سقاه لبناً فاستقاء بعدما استيقظ تصديقاً لرؤياه، فخرج اللبن في قَيْئِهِ. قال الشيخ الأكبر: كان هو العلم فلو كان تَرَكَه لكان أَحْسَن، ولكنه لما استقاء تحوَّل العلم إلى صورة اللبن: قلت: ولا بأس فإنه لو قُدِّرَ له من العلم النَبَوِيّ حِصّة يفوز بها ولا يَخِيْبُ منها بالاستقاء كما أن النبي صلى الله عليه وسلّم أعطى الفضل ولم ينقص من علمه شيء. (من هو بقي) كذلك بقي وإن استقاء اللبن لكنه لا ينقص من علمه الذي قُدِّرَ له وبَقِي محدِّثٌ جليلُ القَدْرِ من تلامذة أحمد رحمه الله تعالى، وصَنَّف في الحديث كتاباً جمع فيه ثلاثينَ ألف حديث (30.000) كذا ذكره الذهبي. وبَقِي من معاصري البخاري وقد أخذ عن أحمد كثيراً ولعله تَعَلَّم منه حين كان أحمد رحمه الله تعالى يجلس للدرس. ثم لما أَتَتْ عليه الحوادثُ في خَلْقِ القرآن تَرَكَهُ، وكان البخاري بَلَغَهُ مرة وهو صغير السن ثم رحل إليه بعد أن كان أحمد ترك الدرسَ، ولذا لم يخرِّج عنه البخاري إلا ثلاثة أو أربعة أحاديث منها. وكتاب بَقِي هذا لم يَفُزْ به الذهبي. والذهبي ممن قيل في حقه أنه لو أقيم على أكْمَةَ والرّواة بين يديه يعرف كلاً منهم بأسمائِهم وأسماءِ آبائهم. ويتلو كتابَ بَقِي «مسند أحمد» فإنه جمع أربعين ألف حديثٍ، ثم «كنز العمال» فإن فيه أيضاً ذخيرة عظيمة للأحاديث.
ناظِرْ إلى حديث النهي عن جعل ظهر الدابة منبراً فإما أن يمشي راكباً أو ينزلَ ثم يتكلم بحاجته فيقول البخاري: إن الفُتْياشيءٌ يسيرٌ وليس تحت النهي. وقوله: (وغيرها) وقد استفدتُ من عادةِ البخاري أن الحديث إذا اشتمل على جزء مخصوص ويكون الحكم عاماً عنده فيصنع البخاري هناك هكذا، ويضع لفظَ «أو غيرها» دفعاً لإيهام التخصيص وإفادة للتَّعميم ثم لا يخرِّج له دليلاً فيما بعد. فالمصنف رحمه الله تعالى ههنا أخرج من الحديث مسألة الدابة فقط، وإنما أضاف أو غيرها إفادة لتعميم الحكم فهذا فقه وبيان مسألة احتراساً. فطلب الدليل على هذا الجزء في كلامه بعيدٌ عندي. ثم كونه صلى الله عليه وسلّم على الدابة مذكورٌ في هذا الحديث بعينه إلا أنه في غير طريقه. وهذا أيضاً من دَأْبِهِ حيثُ يضعُ التَّرْجَمَةَ ويكونُ اللفظُ المُتَرْجَمُ عليه في طريق آخَر، ويُخَرِّجُهُ في موضعٍ آخر ويتركه ههنا عمداً تعميةً وإلغازاً، وربما لا يكون ذلك اللفظُ في كتابه بل يكونُ في الخارج ومع ذلك يُتَرْجِمُ على الحديث ناظراً إلى هذا اللفظ. 83- قوله: (اذبح) والأمر ههنا للإبقاء يعني ذبح هو نى ذى، واعلم أن في يوم النحر أربعة أفعال الرَّمي والذَّبح والحلق والطَّواف. ثم لا ترتيب في الطواف؛ فإنه عبادة في الأحوال كلِّها وليس بجناية. والنحر ليس بواجب على المفرد، نعم يجب الترتيب بين الرمي والحلق مطلقاً، وبين الذبح والحلق على القارن والمتمتع فقط. ولم يُعلم بعد أن هذا الرجل كان قارناً أو مفرداً، فإن كان مفرداً فأبو حنيفة رحمه الله تعالى أيضاً يقول كما في الحديث يعني أنه لا شيء عليه؛ لأن ذلك الذَّبح الذي قُدِّمَ عليه الحَلْق ذَبْحٌ غير واجبٍ ولكن كان أفضل له أن يُقَدِّمَ الذَّبْحَ قبل الحَلْقِ ولكنه إذا قَدَّمَ الحَلْقَ أَجْزَأَهُ ولا شيء عليه، إلا أن في بعض ألفاظِهِ ما سُئِل عن شيء قُدِّم أو أُخِّر إلا قال افعل ولا حرج. والصور كلُّها سبعةٌ مذكورةٌ في الفقه، وفي بعض الصور يتعين الدم عندنا. وأجاب عنه الطحاوي بأن قَوْلَه «لا حَرَجَ» هو على الإثم أي لا إثم عليكم فيما فعلتموه من هذا لأنكم فعلتموه على الجهل منكم لا على التعمد فلا جناح عليكم في ذلك. واستَشْهَدَ بروايةٍ فيها: «فجاءه رجل فقال يا رسول الله: لم أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قبل أن أذبح» فدلَّ على أنهم كانوا جاهلين لا متعمدين. وبروايةٍ أخرى فيها: «وتعلموا مناسككم فإنها من دينكم». وبرواية أخرى فيها: «قد رَفَع الله الحرج عن عباده إلا من اقْترضَ من أخيه شيئاً ظُلماً، فذلك الذي حَرِجَ وهَلَك». ورواية أخرى نحوُها وهي عند أبي داود أيضاً فدَّلَّ على أنّه أراد نَفْيَ الإثم دونَ الجزاء. وهذا من خصائص الحج فإن الشارع يأمر فيه بشيء ثم يوجب معه الجزاء أيضاً، وإلا فقد يَتَخَايَلُ أن بَيْنَ امتِثَال الأمرِ وبين إيجابِ الجزاءِ تَنَاقُضٌ فاعلمه. والذي تحقق عندي أن يُلْتَزَمَ أن الجزاءَ أيضاً سَقَطَ عنه كما سَقَطَ الإِثْمُ لعذر الجهل؛ فإنه إذا لم يُشْعِرْ ينبغي أن لا يكونَ عليه حرجٌ أصلاً كما قال أحمد رحمه الله تعالى: إن أحداً لو خالف الترتيبَ بين هذه الأفعال جاهلاً لا يجبُ عليه الجزاء، والجهل في فقهنا لا يكاد أن يكون عذراً بخلاف الآخرين فإنهم اعتبروه كثيراً واعتبره البخاري أكثر كثيراً. قلت: وما تحكم به شريعة الإنصاف أن الأمر بين تَضْيِيْقِ الحنفية وتوسيعِ البخاري فينبغي أن يُعْتَبَر بالجهلِ أكثر مما اعْتَبَرَ به الحنفية رحمهم الله تعالى، وأن لا يُوَسَّع فيه كما وَسَّعَ البخاري رحمه الله تعالى. ثم إن الحنفية عدُّوه عذراً عند ذكر عوارض الأهلية في أصول الفقه، وأَخْمَلُوا ذكرَه في كتب الفقه، والأحاديث مشحونة بكونه عذراً. فكان المناسب أن يستعملوه في فقههم ويَعْتَبِرونه عُذْراً في مسائلهم أيضاً، لا سيما في عهده صلى الله عليه وسلّم فإنه كان زمان انعقاد الشريعة، والقومُ أُمِيُّون إذ ذاك وكم من أشياء تُتَحَمَّل في الابتداء ولا تُتَحَمَّل فيما بعد، وليس هذا تغييرُ مسألةٍ مِنِّي بل هو تغييرُ تَعْبِيرٍ وعنوانٍ، فإنه لو عَمَّمْتَ اعتبارَ الجهل في ظَرْفٍ فقد قَصَرْتَه على عهده صلى الله عليه وسلّم من طرفٍ آخر، فصارَ مآلُهُ أنه غير مُعْتَبَر بعدَه صلى الله عليه وسلّم إلا بقدرِ ما اعتبره فقهاؤُنا. وهذه الواقعة واقعة عهده صلى الله عليه وسلّم فلو اعتبرناه عذراً ونفينا عنه الجزاء والإثم لا يكون خلافاً للمذهب فإن مسألة إيجاب الجزاء على من خالف الترتيب لمن كان بعد عهدِهِ صلى الله عليه وسلّم ولا تجري على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإنما كان الصحابة في عهد النبوة فالمسائل المبسوطةُ في فقهنا لمن أراد اقتداء الإمام الهُمَام لا للصحابة الكرام. نعم فيه نفع وهو أنه لا نحتاج في الحديث إلى تأويل، ونخرج عنه كَفَافاً. ونِعْمَ ما قال الغزالي رحمه الله تعالى: أن الخبر الواحد كان نَاسِخَاً للقاطعِ في زمنه صلى الله عليه وسلّم لأنه كان عندهم ذريعة التحقيق، ولذا تَحوَّلوا إلى بيت الله يخبر الواحد فإنّه كان عندهم خبره من قبل وكان الزمان زمان الرسالة، فأمكن تحقيقه أيضاً. أما فيما بعده فلا سبيل إلى تحقيق الخبر وتَثْبِيْتِهِ فيبقى ظَنِّيَاً فلا يكون ناسخاً، فكما فَصَّل الغزالي رحمه الله تعالى في نسخ القاطع بِخَبَرِ الواحدِ وفَرَّقَ بين عهده صلى الله عليه وسلّم وبعدَ عَهدِهِ، كذلك فَصَّلْتُ في عبرةِ الجهلِ. وهذا تَصَرُّفٌ عقليٌّ اعتبرناه لنستريح عن الجواب والله أعلم بالصواب.
يعني به أن الإشارة هل هي معتبرةٌ أم لا؟ فالمصنِّف رحمه الله تعالى جعل الإشارة والكلام في باب الطلاق سواء، وعَرَضَ إلينا بعدم اعتبارِها. قلت: إنما ننكر الإشارة في المعاملات والحُكْم دون الأمور الأُخَر، ولم يأت المصنِّف رحمه الله تعالى بشيء يدلُّ على عِبْرَتِهَا في الحُكْم، وما ذكره ليس من باب الحُكْم بل من باب الفتوى فلو اعتمد أحدٌ على أحدٍ فذا جائز له، وإن أراد أن يُلْزِمَ عليه حجةً فكلا. والبخاري يجعلها حجةً في أبوابٍ شتّى كما سيجيء، وما استُدِلَّ به كلِّه في الأمور البَيْنِية دون الحُكْم فلا تقومُ حجةٌ علينا. وفي: «الأشباه والنظائر» أنه لو قال رجلٌ لجماعةٍ: من كان منكم طلْقَ امرأتَهُ فَلْيَنْكُسُ رأسه فَنَكَسُوا رؤوسهم، لا تَطْلُقُ امرأةُ واحدٍ منهم؛ وهذا لأن الإشارة لم تعد حجة عندنا. 86- قوله: (أسماء) الأخت الكبيرة لعائشة رضي الله تعالى عنها. قوله: (الكسوف) في السنة التاسعة بعد الهجرة يوم تُوفي إبراهيم عليه السلام. 86- قوله: (وهي تصلي) قال الحافظ رضي الله تعالى عنه: أنها اقْتَدَتْ من حُجْرَتها. قلت: وهذا الاقتداء صحيح عندنا أيضاً فإنه يكفي لِصِحَّةِ الاقتداء علم انتقالات الإمام، ولكن لا أدري مِنْ أين أخذه الحافظ رحمه الله تعالى. غير أني رأيتُ في «المُدَوَّنَةِ» أن أمهاتِ المؤمنين كُنَّ يقتدينَ يومَ الجمعة مِنْ حُجْرِهِنَّ. 86- قوله: (فقالت: سبحان الله) والذِّكر عندنا ليس بمفسِدٍ بحال، وظاهرُ عباراتِهم تُشْعِر بأن الذِّكْرَ بأي لسان كان، فإنه لا يُفْسِد الصلاة. وينبغي عندي أن يَقْتَصِر عدمُ الفسادِ على العربية والفارسية فقط. نعم يكره في بعض الأحوال. 86- قوله: (فجعلتُ أَصُبُّ... إلخ) فعُلِم أن الصلاةَ لا تُفْسِدُ من مثلِ هذا العمل القليل. واعلم أن الغَشْيَ في القلب، والجنون والإغماء في الرأس. 86- قوله: (إلا أريته) وفي واقعةٍ أُخرى أنه رأى الجنة والنار ممثَّلَتَين في الجدار، والرؤية في كلا الموضعين من رؤية عالَمِ المِثَال. وفيه الكمية دون المادية كَشَبَحِ المرآة، فالعوالم متعدِّدة وهو رب العَالَمِيْن، كما أن الوجود متعدد عند الفلاسفة خارجي وذهني. وأنكر المتكلمون الثاني، نعم عندهم نحوٌ آخر من الوجودِ يسمّى بالتقديري وعند الدَّوَّاني نحوٌ آخر يسمى الدهري. فكذا عالم المثال أيضاً نحوٌ من الوجود. ثم إن عالمَ المثال ليس اسماً للحيِّز، بل هو اسم لنوعٍ من الموجودات، فأمكن أن يكونَ في هذا الحيِّز أشياء من عالم المثال. ثم اعلم أن ما يَرَوُنَه الأولياء من الأشياء قبل وجودها في العالم لها أيضاً نحو من الوجود، كما أن أبا يزيد البِسَطامي رحمه الله تعالى لما مرَّ من جانب مدرسةٍ وهَبَّتْ ريحٌ قال: إني أجد منها ريحَ عبدٍ من عباد الله، فنشأ منه الشيخ أبو الحسن الخرقاني. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلّم «إني أجد نفس الرحمن من اليمن» فنشأ منه الأويس القرني. فهذا أيضاً نحوٌ من الوجود وذكر الشيخ الأكبر أن الشيء إذا نزل من العرش فلا يمرّ بموضعٍ إلا ويأخذ حُكْمه وما من شيءٍ، يَنْزِل على الأرض إلا ويكونُ على السماء الدنيا قبل نزوله بسنة. قلت: وهذا من أمور الغيب لا يعلمها إلا الله، ولكني أُسَلِّم أن الأشياء تنزل من السماء لما في الحديث أن البلأَ ينزل من المساء ويَعْرِجُ الدعاء من الأرض فلا يَزالُ يدافِعُ أحدُهُما الآخرَ إلى يوم القيامة فلا يَنْزِلُ هذا ولا يَعْرِج هَذا بل يبقى معلقاً أبد الدهر. 86- قوله: (المسيح) أصله عِبْري من «الماشيح» أي المبارك وليس عربياً، فاشتقاق أمثالِ تلك من العربية لا يَصِحّ. قيل: إن لقب الدجال المَسِّيْح بتشديد السين. قلت: بل لقبهما هو المسيح، ووجه الاشتراك في اللقَّب أن كلاهما قد أخبرا عن مَجِيْئِهِمَا في الكتب السّالِفة، فلما جاء المسيح المبارك جعله اليهود مسيحَ الضَّلالة والدجَّال وصاروا له أعداءً والعياذ بالله. ولما يَخْرُج الدجَّال يجعلونَه المسيحَ المباركَ. ولذا يكون أكثر اتباعه اليهود فجاء الاشتراك لهذا، ولذا ترى في الأحاديث المسيحَ مقيداً بالدجّال تارةً والضلالةِ تارةً وبلفظِ الهُدى أخرى؛ ليحصلَ التمييزُ بينهما. وراجع الفوائد للشاه عبد القادر رحمه الله تعالى فإنه أشار إليه. 86- قوله: (بهذا الرجل) إشارة إلى الحاضر في الذهن، كما في تنوير الحوالك شرح الموطأ لمالك رحمه الله تعالى للسيوطي رحمه الله تعالى. 86- قوله: (نم صالحا) يُستفاد منه أن القبورَ معطَّلةٌ عن الأعمال مع أن كثيراً من الأعمال قد ثبتت في القبور كالأذان والإقامة عند الدارمي، وقراءة القرآن عند الترمذي، والحج عند البخاري، وراجع له «شرح الصدور» للسيوطي رحمه الله تعالى. وهكذا في القرآن إيهام الجانبين ففي سورة يس: {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} (يس: 52) وهذا يدل على أنه لا إحساس في القبر وكلُّهم نائِمون. وفي آيةٍ أخرى {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} (غافر: 46) فهذه تدل بخلافه، والوجه فيه عندي: أن حالَ البرزخ تختلف على حسب اختلاف عمل العاملين في حياتهم، فمنهم نائمون في قبورهم، ومنهم متلذِّذون فيه، وإنما عُبِّرتْ الحياةُ البرزَخِيَّة بالنوم لأنه لم يكن له لفظ في لغة العرب يؤدي مؤدَّاه، ويصرِّح عن معناه وضعاً، فاختير اللفظُ الموضوعُ لنظيره تفهيماً، فلا شيء أشبه بالحياة البَرْزَخِيَّة من النوم. ولذا جاء في الحديث «النوم أخ الموت» فالنوم أشبه الأشياء بالموت، ولذا أَدْخَلَ القرآنُ النومَ والموتَ تحت لفظٍ واحدٍ وهو التَّوَفِي، ثم فرق بينهما فدل على أن فيهما بعضُ اشتراك وبعض امتياز قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاْخْرَى} (الزمر: 42) والحاصل أن البَرْزَخَ اسم لانقطاع حياة هذا العالمَ وابتداءِ حياةٍ أخرى وكذلك النوم فيه أيضاً نوعُ انقطاعٍ عن هذا العالم. 86- قوله: (أما المنافق أو المرتاب) هكذا في أكثر الروايات، وفي البعض «أو الكافر» ونُسْخَةٌ فيه«والكافر» بدون الترديد. ومن ههنا قام البحث في أن السؤال مخصوص بالمنافق أو يُسأل الكافر المجاهر أيضاً؟ ومقتضى تلك النُّسخة أن يكونَ السؤال عن المنافق والكافر كليهما. وتَعرَّضَ إليه السيوطيّ في «شرح الصدور» فقيل: إن السؤال يختص بمن تَزَيّا بِزَيِّهِ ويَدَّعي الإسلام ويلتبس به. أما الكافرُ المجاهر فلا التِبَاس فلا سؤال فإنه للتمييز. وقيل: إن الكافرَ أَوْلى بالسؤال. والتَّرْدِيد في الرِّوايات من الراوي، وكلامُ الحافظ ابن القيِّم رحمه الله تعالى في «كتاب الروح» يُشْعِرُ بأن السؤال مخصوصٌ بالمُنَافِقِ فقط.أما النُّسخة عند البخاري بحرفِ الجَمْعِ فلا ينبغي أن يُدَار عليها المسألة؛ لأن في أكثرها التَّرديد، والكلامُ مستوفٍ في كتبِ الكلام. والمختارُ عندي أن السؤال يكونُ من الكافر أيضاً. ثم السُّؤالُ عندي يكونُ بالجَسَدِ مع الرُّوْحِ كما أشار إليه صاحب «الهداية» في الإيمان. وقال الصوفية: إنه بالجسد المثالي دون التُّرابي. قال العارف الجامي رحمه الله تعالى: إن الغالبَ في هذا العالم أحكامُ الأجسادِ، وأحكامُ الرُّوحِ مستورةٌ لظهورِ الجسد وخفاءِ الروحِ، وينعكس الحالُ في البرزخ وتظهر أحكام الروح. أما المحشر فيتساوى فيه الحُكْمَان والله تعالى أعلمَ. ولا بُعْد في تعذيب الجسد بعد تَمَزُّقِهِ فإنه يُبْنَى على عدم الشُّعُور في الجمادات وهو في حيِّز الخفاء، وقد تناقض فيه كلام الصدرِ الشيرازي فيلوحُ من بعضِ كلامه نفيُ العلمِ عنها، ومن البعض ثبوتُ العلمِ لها. والتحقيق عندي: أن الشعور البسيط ثابت لها قطعاً كما حَقَّقَهُ المحقِّقُون وتفصيله أن الشيرازي قال مرة: إن العلم كما لا يكون إلا بعد التجريد من جانب المعلوم كذلك لا يَتَحَقَّق إلا بعد التجريد من جانب العَالَم أيضاً، ولذا أنكر أن يكونَ القلبُ عالماً ومدركاً. وقال في موضع آخر: إن العلم عين الوجود وهذا مناقضٌ للأول كما ترى، وإذ قد ثَبَتَ الشُّعُورُ البسيطُ في الجمادات عندي فلا بِدَعَ في تعذيبِ ذراتِ الجسمِ في محالِّها وتعيينِ الوضعِ ليس بلازمٍ فتُعَذَّبُ كلُّ ذرةٍ في مكانِهَا، والله تعالى أعلم بالصواب.
87- (وربما قال النقير) والشك في الأصل بين المزفت والمقير، لا في النقير، ففيه مسامحة. يعني إذا لم يكن عنده علمٌ يرتحلُ لتحصيلِهِ. قال الدَّوَّاني في «شرح العقائد»: يجب على الناس إقامة عالمٍ على المسافة الغدوية ليرجع إليه الناس في أمور دينهم، وإلا فهم آثمون. قوله: (عبد الله) وهو ابن المبارك بعد مقاتل في جميع المواضع. قوله: (زوجة) ولم يثبت في اللغة بالتاء وإنما هو زوج للقبيلتين. قوله: (وقد قيل... إلخ) أي كيف تباشرها؟ وقد قيل: إنها أختك من الرضاعة. واعلم أنهم اختلفوا في نصاب شهادة الرضاعة، فقال أحمد رحمه الله تعالى: شهادة المُرضعة تكفي لإثباتها. وعندنا حجُتها حجةُ المالِ كما في «الكنز». وقد وقع فيه التعارض في قاضيخان، ففي باب المحرمات: أنها لو شهدت بها قبل النكاح تُقبلُ وبعده لا. وفي الرِّضاع خلافُهُ. وقاضيخان أرفعُ رُتبةً من صاحب «الهداية». قال العلامة القاسم بن قُطْلُوبُغَا في كتاب «الترجيح والتصحيح»: أنه من شيوخِ صاحب «الهداية» ومن أجله عُلماءِ الترجيح. والحاصل أن الحديث واردٍ علينا. والجواب عندي: أن الحديث محمول على الدِّيانة دون القضاء، وشهادة المرضعةِ معتبرةٌ دِيانةً عندنا أيضاً، كما في «حاشية البحر» للرملي شيخ صاحب «الدر المختار». والخير الرملي آخر أيضاً من علماء الشافعية، وهو أيضاً صاحب الفتوى. أنها تُقبل دِيانة لا حكماً. وهو مُرادُ الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى بما في «الفتح»: أنها تُقبل تَنَزُهَاً. ولا بِدْع فيه فإن الحديث كما يتعرض لمسائل القضاء، كذلك يتعرض لمسائل الدِّيانة أيضاً، وهذا كثير فيه، ولكن غفل عنه الناس. ثم إنه لا بد أن تعلمَ الفرقَ بين الدِّيانة والقضاء. الفرقُ في معنى الدِّيانة والقَضَاء واعلم أنهم فسروا الدِّيانة بما بينَّه وبين الله، والقضاءَ بما بينه وبين الناس، وفَهِمَ منه بعضُهم أن الدِّيانة تقتصر على معاملةِ الرجل نفسه، فإذا شَاعَ وبلغ إلى ثالثٍ خَرَجَ عن معنى الدِّيانة إلى القضاء، وهذا غَلَطٌ فاحِش، فإن مدار الديانة والقضاء ليس على الاشتهار وعدمِهِ، بل يبقى الأمرُ تحتَ الديانة ما لم يُرفع إلى القاضي، وإن كان اشتهرَ اشتهارَ الشمس في رَابِعَةِ النهار، فإذا رُفَع إليه فقد خرج عن الدِّيانة ودخل تحتَ القضاء، ولو لم يسمَعَهُ قرينك. ثم إن القاضي من تولى من جهةِ الأمير لتنفيذِ الأحكام وإجرائها، بخلاف المفتي فإنه يُعْلِمُ مسائلَ الشريعة عند الاستفتاء ولا يحتاجُ إلى نَصْبِ الأمير، ولا له إجراء الأحكام. وقد علمتَ مرةً فيما سبق أن المفتي يحتاجُ إلى علمِ المسألةِ فقط، ويجيبُ على الاحتمالات والتقديرات أيضاً. مثلاً لو كان الأمرُ كذلك كان الجوابُ ذلك بخلاف القاضي فإنه يحتاجُ إلى علم الوَاقعةِ، ولا تعلُّقَ له بالتقديرات، فإنه نُصِبَ لإجراءِ المسائل، ولا يكون إلا بعد التحقيق عما في الواقع. إذا علمت هذا فاعلم أن مسائلَ الدِّيانات كلها يُفتي بها المُفتي ولا يحكم بها القاضي، وهكذا مسائل القضاء، يَحكم بِهَا القاضي ولا عَلاقةَ بها للمُفتِي، فإن الدِّيانة والقضاءَ قد يتناقضان حكماً، أي يكون حُكم الدِّيانة نقيض ما في القضاء. وقد صرحوا أنه لا يجوز لأحدِهِما أن يحكمَ بحكمِ الآخر، والمُفْتُونَ اليوم غافلون عنه، فإن أكثرهم يفتونَ بأحكامِ القضاء. ووجه الابتلاء فيه: أن المذكور في كتب الفقه عامةً هو مسائل القضاء، وقَلَّما تُذكرُ فيها مسائلُ الدِّيانة. نعم، تذكر تلك في المبسوطات، ولا تُنَال إلا بعد تدرُّبٍ تامٍ، ولعل وجهته أن القاضي في السلطنة العثمانية لم يكن ينصبُ إلا حنفياً، بخلاف المفتيين فإنهم كانوا من المذاهب الأربعة، وكان القاضي الحنفي يُنَفِّذُ ما أفتُوا به، فشرع المُفْتُونَ تحرير حكم القضاء لينفِّذ القاضي، فاشتهرت مسائل القضاء في الكتب، وخملت مسائل الديانة، ثم لا يجبُ أن تتفقَ الديانة والقضاء في الحكم بل قد يختلفان. ففي «الكنز»: إن ولدتِ ذكراً فأنت طالقٌ واحدة، وإن ولدتِ أُنثى فثنتين، فولدتهُما ولم يُدرَ الأول تَطلقُ واحدةً قضاءً. وثِنتين تنزهاً، أي ديانة. فههنا أخذ القاضي بالجانب المتيقن والمُفتي بالأحوط. ولو قال في هذه المسألة بعينها: إن ولدتِ أُنثى فثلاثة، فولدتهُما، فهي ثلاثةٌ دِيانةً وواحدةٌ قضاءً، فاختلفَ الحكمان حِلاً وحُرْمةً. ثم الأحوطُ ههنا واجبٌ كما صرحوا به، لا أنه مُستحبٌ، وهكذا الإقالة في الغرر الفعلي واجبةٌ عندنا دِيانة وليست بمستحبة. فظهر أن الدِّيانةَ لا تكونُ مستحبةً كما زعم أن العمل بالقضاء يكون واجِباً، وبالديانةِ يكون مستحباً، فليس الفرقُ بينهما من هذه الوجوه. ثم لي ترددٌ ههنا وهو أنك قد علمتَ أن الديانةَ والقضاء قد يتخالفان حِلاً وحُرمةً، فإن عَمِلَ الرجلُ المُبتلى به بالديانة وكانت الديانةُ فيه مثلاً أنه حرامٌ، ثم رَفَعهُ إلى القاضي فحكم بالحل، فهل يرتفعُ من قضائه تلك الديانة أم لا؟ وهل يصيرُ هذا الأمرُ حلالاً له بقضاء القاضي بعد ما كان حراماً له؟ فلا نَقْل فيه عندي غيرُ جُزئيةٍ واحدةٍ تُروى عن صاحبيه وهي: أن الزوجَ الشافعيُ إن طلق امرأته الحنفية طلاقاً كِنائياً، ثم أراد الرجوع لأن الكنايات رواجعُ في مذهبه، وأبت أن ترجع إليه لأنها بوائنُ عندها، فإن حكم القاضي الشافعي بالرجوع نفذَ ظاهراً وباطناً، ويصح رجوعه. وليست عندي ضابطةٌ كليةٌ يُستفاد منها أنه متى ترتفع الديانة من القضاء ومتى لا ترتفع. ولذا أترددُ في ارتفاع الكراهةِ ديانةً فيما حَكَمَ القاضي بالرجوع في الهبة عند ارتفاع الموانعِ السبعة، لأن القضاء بالرجوعِ مع بقاءِ الكراهة ديانةً أيضاً ممكنٌ، ولكني مترددٌ فيه. والذي يظهر أنه يرتفع تارةً، وتارةً لا يرتفع. وأول ما تنهبتُ على الفرقِ بين القضاء والديانة من كلام التَّفْتَازاني في «التلويح» لما ذكرَ صاحب «التوضيح» مسألة الاستعارة بين السببِ والحكم في باب الحقيقة والمجاز، وقال: لو نوى بالشراء الملك وبالعكس يُصدَّقُ فيما عليه ولا يصدق فيما له. قال التفتازاني: وفيما له أيضاً دِيانة يُفتي به المُفتي ولا يحكمُ به القاضي. ففهمتُ منه أن القضاءَ أمرٌ غير الفتوى. ثم لم أزل أفتشُ عن هذا الفرق في عبارات الفقهاء حتى وجدتُ في أصول العِمَادي لابن أبي صاحب «الهداية» مقدمةً مُمهدةً لذلك وقد بسطه الطحاوي في «مشكل الآثار» أيضاً وهذا الفرقُ معتبرٌ في المذاهب الأربعة. ففي قصة امرأة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك». وبحث عليه النووي هل كان هذا قضاءً أو فتوى؟ فإن كان الثاني فإنه يصحُ أن يفتَى به كل عالمٍ، وإن كان الأولُ فإنه لا يجوز إلا للقاضي. وعند الطحاوي ما يدلُ على أن هذا الفرق كان دائراً في السلف أيضاً: حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبي يوسف، عن عطاء عن السائب قال: سألت شُرَيحاً. فقال: إنما أقضي ولستُ أفتي. وهذا صريحٌ في أن القضاءَ غيرُ الإفتاء. وأن القاضي لا يجوزُ له أن يحكم بالدِّيانة ما دام قاضياً وجالساً في مجلس القضاء، فإذا تحوَّل عنه والتحقَ بسائرِ الناس، فإنه مفتىٍ كسائرهم ويسوَّغُ له ما يسوغ لهم. فالحاصل: أن الزوجَ إن استقينَ بخبرِ المرضعةِ جَازَ له أن يقبلَ شهادتها، ويعملُ بالديانة ويفارِقَها، فإن بلغَ الأمرُ إلى القضاء لا يجوز له أن يحكم بتلك الشهادة. ومن ههنا تبيَّن أن مراد ابن الهُمَام رحمه الله تعالى من التنزه والتورع: الكراهةُ تنزيهاً دون الاحتياط فقط.
88- قوله: (ففارقها) لعله بالتطليقِ لأنه لم يثبت كونُها مرضعةً بعدُ، وإنما الفسخُ فيما لو تحققَ كونها مرضعة. وإن كان المرادُ أنه فارقَها بأمر النبي صلى الله عليه وسلّم فلينظر فيه المجتهد أنَّ حكمَهُ هذا كان قضاءً أو دِيانةً. ومسائلنا تقتضي أن تكون ديانة، والله تعالى أعلم بالصواب.
89- قوله: (بني أمية) محلَّةٌ من المدينة. 89- قوله: (أطلقكن) هذه قصة طويلة والإيلاءُ فيه لغويٌ، وغرضُ المصنف رحمه الله تعالى إثباتُ التناوب بين عمر والأنصاري، لأن عمر رضي الله عنه كان نَكَحَ خارجَ المدينةِ، فكان يَحضُرُ المدينةَ انتياباً.
كُلُّ سفيان بعد محمدِ بن كثير هو الثَّوري، لا ابن عُيَيْنَة. 90- قوله: (لا أكاد أدرك... الخ) أي هو يُطوِّلُ الصلاة، فلا يُصلي الناسُ بصلاتِهِ لأجل تطويله. ثم إنه صلى الله عليه وسلّم غضب عليه لمخالفته الفطرةَ السليمة، فإنه طَوَّلَ الصلاةَ على من كانوا عمالاً وأصحاب نوَاضَح، وهو غير مناسب عقلاً ولا يحتاجُ إلى كثير فكرٍ، فكان عليه أن يراعيَهُ من فِطْرَتِهِ السليمة، ويصلي بهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلّم يصلي بهم في تمام. والحاصل أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لم يكن يغضب إلا عند هتكِ حرمةٍ من حُرُمَات الله، أو عند مخالفةِ البَدَاهَة، وصريح السفاهة، فإذا كان موضعَ عذرٍ أو موضعَ اجتهادٍ كان أسمحَ الناس. قال الحافظ: إن هذا الرجل أبي. 91- قوله: (اللقطة) بفتح القاف أفصح، وهي مبالغةُ اسم الفاعل، ولقطة اسم مفعول كاللقمة والأكلة. ثم اعلم أن الوعاءُ اسم للظرفِ والخِرْقة التي على فمها يقال لها: العِفَاص، والخيطُ الذي يُشد به الخِرْقة يقال له: الوِكَاء. 91- قوله: (سنة) واختلفت الروايات في «المبسوط» و «الجامع الصغير» في تقدير مدَّةِ التعريف؟ ففي «الجامع الصغير»: أنها سنة. وفي «المبسوط»: أنه بقدر ما يرى، وهو أسهل في الأحاديث. 91- قوله: (ثم استمتع بها) ويجوز الاستمتاعُ بها للفقير والغني عند الشافعية. وعندنا للفقير فقط. وأجاب صاحب «الهداية» عن استمتاعِهِ مع كونهِ غنياً أنه كان بإذن الإمام، وهذا جائز عندنا وغَلِطَ في شرح مرادِهِ صاحب «العناية» وهو شيخ الشيخ ابن الهمام. وإن كان كتابه أرفع من «العناية» حيث علل بكونه محلاً مجتهداً فيه. والقضاءُ إذا لاقى محلاً مجتهداً فيه يصير مُجمعاً عليه، فهذا الشارح صَرَفَه إلى باب آخر مع أن صاحب «الهداية» قد جوَّزَ الاستمتاع به على المذهب. ثم اتفقت الحنفية والشافعية على أنه لو أقامَ المالكُ عليه البينةَ وجبَ عليه ردُّهُ. ونُسِبَ إلى داودٍ الظاهري والبخاري أنه لا حق له في ماله بعد السنة، ويصيرُ بعدها مِلكُ الملتقط بتاً. واعلم أن العمل بمذهبه خاصة إنما هو قبل حكم القاضي، فإذا حكم القاضي بأمر وجبَ العملُ بحكمِهِ ولو من أي مذهب كان، فالذي هو رافعٌ لاختلافِ المذاهبِ الأربع عند الفقهاءِ هو القضاءُ. 91- قوله: (حتى احمرت) وإنما غضِبَ عليه لأن السؤالَ كان مخالفاً للفِطرة السليمةِ، فإن الزمان كان زمان الديانة، والبعير مما لا يُخاف عليه السَّبُعُ، ولا يعجز عن الماء والكلأ، فلا حاجة إلى التقاطه. أما الآن فقد انقلب الزمان ظهراً لبطن فينبغي أن يلتقطَ البعيرُ أيضاً. 92- قوله: (حدثنا محمد بن العلاء) وهذا غير واقعة الكسوف التي مثلت فيها الجنة والنار. 92- قوله: (فلما أكثر عليه) أي بعض المخلصين بلا وجه وجيه وبعض المنافقين تعنتاً. 92- قوله: (مَنْ أبَى) فسمّى أباه فارتفعت شبهة الناس عنه، وفي الشروح: أن الرجل لما رجع إلى بيته لامَتْهُ أمهُ وقالت: ما رأيت ولداً أعق منك، ما أعلمك أني ما فعلت في الجاهلية، أفكنت مفضحي بين الناس، قال: والله لو ألحقني النبي صلى الله عليه وسلّم بغير أبي لالتحقت به. 92- قوله: (سلوني) وكان هذا غضباً منه وسَخْطَةً، ولم يفهمه أحدٌ غير عمر رضي الله تعالى عنه فقال ما قال. وإنما غضبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم لكونه شارعاً بُعثَ لتعليم الشرائع، فجعلَ بعضُهُم يسألونه عن المغيبات، وكذلك بعض المنافقين سألوه سخرية فقط. وحاصلُ مقالة عمر رضي الله تعالى عنه أنَّا نكتفي للنجاةِ بالإيمان بالله ورسوله... إلخ، ولا نحتاج إلى أسئلة سواه. قلت: وكان مناسباً أن يقعَ في حياتِهِ مثْلُ تلك الواقعةِ مرةً ليُعلَم أنه أيضاً تحت القدرةِ الإلهية أن يخبرَ رسوله بكل ما استخبَرُوه، ويلقمُ في أفواهِ المتعنتينَ حجراً. ثم اعلم أن في طرقه: «والقرآن إماماً»، وتتبعتُ إمامتَه في التنزيل أيضاً فلم أجد غير قوله تعالى: {كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً} وهذا كتاب. ومر عليه الطيبي في «حاشية الكشاف» وفهم لطفَه ولم يذقه أحدٌ غيرَه. ومعناه عندي أن كتابَ موسى مع جلالة شأنه يكتنه إمامته وكونه رحمة. وهذا أيضاً كتابٌ مثله في كونه إماماً ورحمة، ولكنه بلغَ في كونه إماماً ورحمة مبلغاً لا تُكتنه نهايته. ثم إنه إذا كان إماماً فلا يكون مأموماً ومقتدياً، فلا يقرأه المقتدي. وعند أبي داود أن رجلااً قرأ ب: {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} خَلْفه صلى الله عليه وسلّم والظاهر أنه لم يقرأ الفاتحة فلما فرغَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ما لي أُنازعُ القرآن» بصيغة الواحد المتكلم المجهول، وهذا في واقعة الظهر، فلو كانوا كلُّهم قارئين لَمَا كان لتخصيص المخالجةِ بنفسه معنىً، فإن المخالجةَ حينئذٍ تكون مع جميعِ القارئين لا مع النبي صلى الله عليه وسلّم فقط، فدل على أنه كان هو القارىء فقط، ولم يكن هناك قارىء من المقتديين غير هذا الرجل. ولعله أيضاً لم يقرأ بالفاتحة بل قرأ ب- {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} فكان أمرُ القراءة عنده بالفاتحة وغيرها سواء. وكيفما كان جاءت قراءتُهُ تحت الإنكار لِعِلةِ المنازعة والمخالجة، فلا ينبغي أن يقرأ خلف القارىء، فإن الصراطَ المستقيمَ الاستماعُ والإنصات عند القراءة: {وإذا قُرِىء القرآنُ فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} (الأعراف: 204) وهو وإن كان في الجهرية، لكنَّ الحديثَ صريحٌ في السرية، والمنازعةُ تحصل فيهما. وسيأتي التفصيل في موضعه.
وإنما ترجمَ المصنفُ بلفظ الإمام لأن في طرق هذا الحديث: «وبالقرآن إماماً»، ولمّا كان هذا مُوهماً للتخصيصِ احترس وأضاف قوله: أو المحدث ليندفعَ التخصيصُ.
ولعله ناظرٌ إلى مقولةِ الخليل النَّحوي في جزء القراءة «يكثر الكلام ليفهم ويعلل ليحفظ». وقد كنت أظنُ أنه وَقَعَ فيه القلب. والأصل أن الكلامَ يُكثرُ ليحفظ، لأن التعليل أنفعُ للفهم، والتكرارُ أعونُ للحفظِ، حتى طالعت نُسخاً عديدة لذلك ولكن وجدتُ في جميعها كذلك، ثم بدا لي أن التعليلَ معينٌ في الحفظ أيضاً، كما هو مُعينٌ في الفهم، وكذلك التكرارُ أيضاً له دخل في الفهم كما يُعلم بالتجربة. قوله: (هل بلغت) وإنما كرره مبالغةً وتهويلاً، وإنما جعلهم شَاهِدينَ لجحود الأمم يوم الدين، فاحْتِيْجَ إلى شاهد، فجعل اللَّهُ سبحانه أيضاً شاهداً وهو على كل شيء شهيد. وليس فيه إساءةُ أدبٍ، كما أن التسمية والاستعاذةَ قبل الخلاء ليست بإساءة، لأن الحفظَ لا يحصلُ إلا ببركة اسمه تعالى. 94- قوله: (عبدة) وفي نُسخة لصمدة وهو غلطٌ من الكاتب. 94- قوله: (سَلَّم) قيل: الأول للاستئذان، والثاني للقاء، والثالث للتوديع. قلت: ولعل الظاهر أن يكونَ التثليث باعتبار مروره على الناس كما هو المعتاد في زماننا أيضاً، وإنما اكتفى بالثلاثِ لكونِهِ شارعاً تضبط أقوالهُ وأفعاله، فاختار الوسط إلا أني لا أتيقنُ به لفقدان النقل. وحاصله: أنه صلى الله عليه وسلّم إذا كان يمر على جماعة عظيمة لم يكن يكتفي بسلام واحدٍ بل كان يُسلمُ مرةً في الأول، ثم إذا بلغ في الوسط سَلَّم، ثم إذا بلغ في الآخر سَلَّم. أما الأحاديث في التوديع فهي في «كنز العمال» فليراجعها.
97- قوله: (ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب)... إلخ أجرُ الإيمان بنبيِّهِ وأجر الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلّم 97- قوله: (يَطَؤُهَا) أي بملك اليمين. قوله: (أدبها) التأديب تهذيب دادان. قوله: (ثم أعتقها) وقد ذكرتُ ههنا أمورٌ فاختلف الشارحون في التعيين- منها: قلت: والأوجهُ أن الأمورَ المذكورة إلى الإعتاق عملٌ واحد والأمورُ بعد الإعتاق عمل آخر. فالأجرانِ على الإعتاق بما فيه وعلى النكاح، لأن الإعتاقَ عبادٌ مستقلةٌ. وسائرُ الأمور المذكورة قبلَه تمهيداتٌ له، وكذا التزوُّجُ بعد الإعتاق أيضاً عبادة مستقلة أخرى، فالأجران على هذين العملين. ثم ههنا عَوِيْصَةٌ وهي: أن المرادَ من أهل الكتاب ماذا؟ إن كان اليهودُ فهو صعبٌ من حيث أنهم كفروا بعيسى عليه السلام، وصاروا كفاراً وحبطَ إيمانُهُم، فكيف يستحقون الأجرين. لأنه لم يبق حينئذٍ من عملهم غيرُ الإيمان بالنبي وهو عملٌ واحدٌ فلا يستحِقون عليه إلا أجراً واحد. وإن قلنا: إن المراد منهم النصارى كما يؤيده ما عند البخاري: «رجل آمن بعيسى» بدل قوله: «من أهل الكتاب» فدل على أن المراد منهم النصارى فقط دون اليهود، فهو أصعبُ لأن الحديثَ مستفادٌ من قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} (القصص: 54) وإنه نَزَلَ في عبدِ الله بن سلام وأصحابه باتفاق المفسرين، وكان يهودياً فعُلِم أن لهم أيضاً أجرين فيدخلون تحت أهل الكتاب أيضاً ولا بد. قلت: ولا ريب في أن الحديث عام لليهود والنصارى، أما ما ورد في لفظ البخاري: «رجل آمن بعيسى»، فإنه يجعل تابعاً لما في أكثر الروايات: «رجل من أهل الكتاب» ويحملُ على اقتصارٍ من الراوي. والأصل كما ذكره آخرون ولا ينبغي أن تُدارَ المسألة على ألفاظِ بعض الرواة، سيما إذا وردت مخالفة للأكثرين. فهذه قضية أبهمت على الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى حتى استقر رأيه على ما نُقِلَ عن الكِرْمَاني أن الأجرينِ لا يختصانِ بأهل الكتاب، بل كل من آمن بنبينا صلى الله عليه وسلّم ولو بعد الكفر الصريح حتى المجُوسي والوَثني، فإنه أيضاً يُحْرِزُ الأجرين. قلت: هذا كلامٌ باطلٌ، فإنه خلاصةَ الحديثِ الوعدُ بالأجرين على العملين، وليس الكفرُ الصريحُ من البرِّ في شيء يستحقُ عليه الأجر، فلم يبق حينئذٍ إلا عملٌ واحد وهو الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلّم وهو وإن كان من أبرِّ البرِّ وأزكى الأعمال، وأسنى المقاصد، لكنه عملٌ واحد لا يستحقُ عليه إلا أجراً واحداً. نعم، أجرُهُ يكون وِزَانُ عمله وهذا أمرٌ آخر. وعندي حديثٌ صريحٌ في أنَّ الآيةَ عامةٌ، وأن الأجرين بالإيمان بنبيه وبالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلّم فعند النسائي في تأويل قول الله عز وجل: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ} (المائدة: 44) في حديث طويل فقال الله تبارك وتعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} (الحديد: 28) أجرين: بإيمانهم بعيسى وبالتوراة وبالإنجيل، وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلّم .. إلخ، فهذا أوضحُ دليلٍ على أن الأجرين على العملين من إيمانهم بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلّم ولما عجز الحافظ رحمه الله تعالى عن الجواب التزم هذا الباطل. والذي عندي هو أنَّ عبد الله بن سلام وأمثاله أيضاً يَستحقُّونَ الأجرين، والذين دخلوا تحت النصِّ داخلون في قوله: «أهل الكتاب» أيضاً، ولا يردُ شيءٌ، لأن الذين كفروا بعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام وحَبِطَ إيمانهم، فإنهم الذين بُعث عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام فيهم، ودَعَاهم إلى شريعته، أي بني إسرائيل، فلما أبوَا هلكوا كما قصَّهُ اللَّهُ سبحانه، أما يهود المدينة فلم تبلغ دعوتُهُ إليهم، ولا وُجد منهم الانحراف عنها، وإنما أمرُهُم كما في التاريخ أنهم فروا من الشام إلى العرب حين اجتاحهم «بخنتصر» وبعد فرارهم بمئتين سنة بُعث عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام في الشام. فالذين تمت عليهم الدعوةُ بالتوحيد والشريعة جميعاً هم يهودُ الشام، أما يهود المدينة فلم تصل إليهم الدعوة أصلاً. كما في «الوفا» أنه وُجِد في جانب من المدينة حجر عند تلَ مكتوبٌ عليه: هذا قبرُ رسولُ رسول الله عيسى عليه السلام، جاء للتبليغ فلم يُقدَّر له الوصول إليهم. وقد وقع فيه تحريفٌ في «تاريخ الطبري» فسقط لفظ: الرسول، وصارت صورته هكذا: هذا قبرُ رسول الله عيسى، وكثيراً ما يسقطُ اللفظُ المكرر عند الكتابة ويتكرر اللفظ الواحدُ. فشغب به الطائفة الباغية قاديانية وزعمت أنه أصرحُ دليل لهم على وفاة عيسى عليه السلام. وهذا هو دَيْدَنُ الزائغين من بدء الزمان، يستفيديون من أغلاطِ الرواة وتحريفِ الناسخين، ويتَّبِعُون ما تشابه منه، وأما الرَّاسخون في العلم فيتبعون المحكمات ويأخذون العلم من مكانه، قاتلهم الله ما أجهلهم أيتمسكون بما في الطبري ولا يستحيون أن تلك الواقعة بعينها موجودةٌ في «الوفاء» وفيه رسول رسول الله عيسى، فطاح ما ركبوا عليه من الجهل. وقد حقق أهل أوربا مجيء حواريين في الهند أيضاً، وقالوا: إنهما دُفِنا في بلدة مدارس، وكذلك حواريان مدفونان في إيطاليا، وحواري في تبت. وهكذا ثبتَ ذهابهم إلى يونان وقسطنطينة، أيضاً. والذي يدلك على أنهم لم يذهبوا إليهم من عند أنفسهم بل بعثهم عيسى عليه السلام: أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما كتب كُتباً إلى النَّجاشي والمُقَوْقَس ودُومة الجندل وغيرهم قال لأصحابه: «إني أبعثُكم كما بَعثَ عيسى عليه السلام الحواريين». فنشأ منه جهلٌ آخر للنصارى، فإنهم استدلوا به على عمومِ بعثة عيسى عليه السلام، وقالوا: إنها لو لم تكن عامة لما بعث الحواريين إلى الأطراف، ولم يعلموا أن الدعوة إلى التوحيد لا تختص بنبي دون نبي، بل تجوزُ لهم الدعوةُ إلى الشريعة أيضاً إذا لم يكن فيهم نبيٌ. فأهل المدينة لم يكن لهم نبيٌ إذ ذاك وكانوا من بني إسرائيل، وهو رسولٌ إلى بني إسرائيل بنص القرآن، فلو كان دعاهم إلى شريعتِهِ لما كان فيه بأسٌ أيضاً، ولكنهم لم تبلغ إليهم دعوته. وإذا كان أمرُهم ذلك، فالمسألة فيهم عندي أنه لو كان أحد منهم على دينٍ سماوي من قبلُ كعبد الله بن سلام، فإنه كان على اليهودية، ولم تشملهم دعوة عيسى عليه السلام بخصوصها، ينبغي أن يكون ناجياً. نعم، لو كان في الشام لما احتاج إلى خصوص الدعوة وكفته دعوة عامة، وهذا لم تبلغه الدعوةُ ولم يكن من سكان الشام وكان على دينٍ حقٍ فيكون ناجياً، لأنه لم يلتزم شريعة عيسى عليه السلام لعدم المطالبة من جهته لا للإباء منه. نعم، يخرج عن هذا الاستحقاق من كانت دعوتُهُ بلغت إليه ثم ردها. أما إذا كان قومُهُ يدعى في الشام وهذا كان غافلاً عن دعوته لعدم علمه، فإنه بعد الإيمان بالنبي يستحق الأجر مرتين إن شاء الله تعالى وكفاه التصديق إجمالاً. ويتضحُ ذلك كل الاتضاح بعد البحث في معنى عموم، البعثة فاعلم: أن النبي صلى الله عليه وسلّم مبعوثٌ إلى كافة الناس بلا خلاف. ثم قيل: إن إبراهيم ونوحاً عليهما السلام أيضاً كذلك، فإنه يقال لنوح: إنه أولُ نبيَ صلى الله عليه وسلّم في الأرض. فتصدى العلماءُ لجوابه، لأن البعثةَ العامة قد عُدَّت من خصائصه صلى الله عليه وسلّم وتوجه إليه الحافظ رحمه الله تعالى في «الفتح» والسيوطي رحمه الله تعالى في «حاشية النسائي» ولكنهما لم يذكرا وجهاً قوياً. والذي ظهر لي: أن بِعثة الأنبياء كلهم عامة في حق التوحيد كما صرح به ابن دقيقٍ العيد، بمعنى أنه يجوز لهم أن يدعو إليه من شاؤوا سواء كانوا مبعوثين إليهم أم لا. ويجبُ على القوم إجابة دعوتهم ولا يسعُ لهم الإنكار بحال، فإن أنكروا استحقوا النار. بقي أنه ماذا معيار بلوغ الدعوة وأنه هل يُشترط التبليغ إلى كل نفس أو مصر على رؤس الأشهاد؟ أو كفى له التبليغ إلى من حَضَرَه، فذلك مما لا علم لنا به. وإذاً فالتعبيرُ الأوفى أن يقال: إن مَنْ تحقق التبليغُ فيهم بأي نحو كان فإنه يُعَدُّ كافراً بالجحود، سواء كان ذلك النبي بُعث إليهم أم لا. ثم إن كانوا متعبدين بشريعة سماوية من قبل لا يجبُ عليهم الدخول في شريعته. ما لم تبلغهم الدعوة إلى الشريعة أيضاً، فإن بَلَغتْ وجب التعبدُ بها أيضاً، ويحمل ذلك على نسخ شريعة المدعو له، فإن لم تكن عندهم شريعة سماوية من قبل، وجبَ عليهم الدخول في شريعته بدون دعوة إليها، هذا فيمن بلغت إليهم دعوة نبي بخصوصها. وأما الذين لم تبلغ إليهم الدعوة بخصوصها، ولكن بلغ إليهم خبر ذلك النبي كسائر الأخبار تحمل من بلد إلى بلد، يجب عليهم الإيمان به أيضاً، فإن آمنوا به نَجوا وإن أبَوا هلكوا، وتكون معاملتهُم مع ذلك النبي كمعاملتنا مع سائر الأنبياء عليه الصَّلاة والسَّلام، أعني التصديق فقط. ولا يجبُ عليهم التعبدُ بشريعته بمجرد بلوغ خبره إذا كانوا على شريعة نبي من قبل. وهذا كلُّه قبل هذه الشريعة الآخرة، وأما بعدها لا يسعُ لأحدٍ الانحراف عنها بحال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران: 85). وبالجملةِ دعوةُ التوحيد لا تختصُ بنبي دون نبي، بل هي عامة مطلقاً. وأما الدعوة إلى شريعته فخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلّم بمعنى أنه يجب أن يدعوَ إليها جميع من في الأرض، وقد تمت على أيدي الخلفاء الراشدين. وأما سائر الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام فكانت دعوتهم إلى شرائعهم مقصورة على أقوامهم وتبليغُ من سواهم كان في اختيارهم، ولم يكن فريضة عليهم. والسر في شُهرةِ عموم بِعثة هذين النبيين أنه لم يُبْعث لمناقضةِ الكفر غيرُ هذين. أما موسى وعيسى عليهما الصَّلاة والسَّلام فإنهما بُعثا إلى بني إسرائيل وكانوا مسلمين نَسَبَاً فإنهم من أولاد يعقوب عليه الصَّلاة والسَّلام، بخلاف نوح عليه الصَّلاة والسَّلام فإنه أول من ناقض الكفر، ولذا لقِّب بني الله، وكذلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من رد على الصابئين وأسس الحنفية. والنبي إذا رد على شيء يكون عاماً لجميع البلاد وهذه مقدمةٌ ينبغي أن يُبحث عنها أن النبي إذا ردّ على شيءٍ فهل يقتصرُ ردُّه على من بُعث إليهم أو يعمُ لمن في الأرض. وهذا في باب العقائد ظاهر، فإنها مشتركة في الأديان كلها فيعم الرد قطعاً، وأما في الشريعةِ ففيه نظرٌ، فالعموم من هذه الجهة، وللقومِ أجوبةٌ أخرى فليراجعه من «الفتح». إذا علمتَ هذا فاعلم أن عبد الله بن سلام إنما هو ممن بلغ إليه خبر عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام، ولا نظن بمثل عبد الله بن سلام إلا أن يكون صَدَّقَه لما قد علمنا من سلامة فطرتِهِ حين حضر بمجلس النبي صلى الله عليه وسلّم وانطلق لسانُهُ بعد نظرة، بأن هذا الوجه ليس بوجه كذاب فلا نسيءُ به الظن. ولا نقول: إنه لم يصدقه، فإذا كان كذلك فقد كفاه عن عهدة الدخولِ في شريعته، لأنه لم تبلغ إليه الدعوة إلى شريعته وإن بلغ إليه خبره كما علمت، نعم لو كان بلغ إليه وصي عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام ودعاه إلى شريعته، لوجب عليه الدخول في شريعته أيضاً، ولكنه لم يصل إليه ومات دونه فكفَاهُ تصديقهُ به لإحراز أجر إيمانه. وحينئذٍ بقاؤُه على اليهودية وعمله بالتوراة لا يمنعُ عن تحصيل الأجر، فلما ظَهَر النبي صلى الله عليه وسلّم وآمن به أيضاً حصل له الأجر مرتين، لأنه أحرز إيمانَه مرة من قبلُ، وهذا إيمانٌ ثانٍ فيحصل له الأجر أيضاً. نعم، الذين كانوا في الشام وأنكروا به لا يحصلُ لهم بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلّم إلا أجرٌ واحد، بخلاف مَنْ كانوا في المدينة، فإنه ليس عليهم إلا التصديق لعدم بلوغ دعوة الشريعة إليهم، وكانوا على دين سماوي من قبلُ فيُحرزُون الأجر مرتين. فإن قلت: وفي المعالم أن عبد الله بن سلام جاء النبي صلى الله عليه وسلّم مع ابن أخيه، وقال: لو آمنت بجميعِ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام غير عيسى فهل يكفى ذلك للنجاة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم «كلا»، أو كما قال. وهذا يدلُ على أنه لم يؤمن به أيضاً. قلت: أولاً: إن إسناده ساقطٌ. وثانياً: إن سؤاله من باب الفَرض. وتحقيق المسألة لا أنه يُخبرُ عن حالهِ، بل يريد أنه لو فَعَلَه أحدٌ هل يُعتبر منه أم لا؟ وثالثاً: أنه لما آمن بعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام إجمالاً لعدم التفصيل عنده، ثم عنده التوراة من قبل إماماً ورحمة. وهذه الشريعة الكاملة الجامعة الآن، فهل يجبُ عليه الإيمانُ بها تفصيلاً بعد هاتين أم لا؟ فهذا أيضاً احتمال من الاحتمالات. والحاصل: أنه إذا ظهر أمرهُ ونيتُهُ من الأحاديث القوية فلا نتركه لروايات ساقطةٍ ولا نُسيءُ به الظن ونأولُ فيما وردَ خلافه. وبعد هذا التحقيق انحلت العقدة التي عرضتْ على الحافظ رحمه الله تعالى فألجأتهُ إلى التزام باطل، والحمد لله. ثم قال قائل: إن مسألة إحراز الأجرين ينبغي أن تكون مقتصرةٌ على زمانِ عدم التحريف، فأما إذا حرفوا كتبهم وبدلوا كلام الله من بعد ما عَقَلُوه فلا ينبغي أن يحصل لهم الأجران. قلت: وهذا القائل خالفَ نصَ الحديث، فإن حديثه صلى الله عليه وسلّم إنما كان لأهل زمانه، وحالُهم إذ ذاك معلومٌ. والذي عندي أن يُفصَّلَ في التحريف، فإن كان بلغَ تحريفُهم إلى حد الكفر البواحِ، ينبغي أن لا يحصل لهم الأجر مرتين، وإلا فالأمر كما في الحديث. نعم، يمكن اختلاف كلمات الكفر في الشريعتين كلفظ: الابن، فإنه مستعمل في الكتب السابقة بأي تأويل كان، وهو كفر في شريعتنا مطلقاً، فينبغي رعايته أيضاً. وراجع بحثه من «فتح العزيز» من تفسير قوله تعالى: {نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ} (المائدة: 18) إلخ من أن التأويلَ الباطل هل يُفيد شيئاً أم لا؟ فإن النصارى كفار قطعاً، لكنهم كذلك يدَّعون التوحيد أيضاً. والشريعة الغراء قد اعتبرت به بعض اعتبار، حيث ميَّزَهَم عن سائر الكفار في جواز المُنَاكحات مع نسائهم وأكل ذبائحهم. فإذا خفف اللَّهُ فيهم في أمور الدنيا لرعايةِ دينٍ سماوي، فلا بُعد أن يغمض عنهم في الآخرة أيضاً ويمنحهم أجرهم مرتين بعبرة إيمانهم الأول أيضاً لمجرد ادعائهم. فإن قلت: إن الأجرين لهؤلاء الثلاثة فقط أو لغيرهم أيضاً، فالجواب كما قاله السيوطي رحمه الله تعالى في نظم له: أنهم يبلغون إلى اثنين وعشرين نوعاً. ومن ههنا ترددت أن هذا العدد محصورٌ أو فيه أمرٌ جامع، وما تحصل لي هو أن كلَّ عمل عُرِضَ على بني إسرائيل فقصَّروا فيه، فإن حافظنا عليها فلنا فيه الأجران. كما عند مسلم في صلاة العصر: «إنها صلاة فُرضت على مَنْ قبلكم، فإن حافظتم عليها فلكم أجران»- بالمعنى . وكما أن بني إسرائيل كانوا يغسِلون أيديهم قبل الطعام، فلو غسلناها قبل الطعام وبعده فلنا أجران الترمذي. فإن قلت: إذا كان الأجران على العملين فأي فائدة في ذكر هذه الثلاثة؟ فإن كلَّ من يعملُ عملين يستحق أجرين. قلت: إنما خصَّصها لانضباطها والاعتداد بحالها. والحكم الشرعي إنما يجيءُ في نوعٍ أو في صِنْفٍ منضبط لا في الأشخاص، فإن ورد في شخص يعد من خصوصيته ولا يعم. ومن ههنا بحث في الأصول، أنه هل يجوز خلوّ حكم شرعي من الحكمة. ونسب إلينا أنه يجوز كما في استبراء البِكْر، فإن البكر لا شبهةَ فيها للعلوق، فلاستبراء فيها خال عن الحكمة ظاهراً، ومر عليه شارح «الوقاية» وقال: إن ما يجبُ هو أن لا يخلو صِنْفٌ منضبط عن الحكمة، لا أنه يجب وجودُها في كل جزء. وحينئذٍ فخلوّ هذا الجزئيِّ بخصوصه عن الحكمة لا يضرنا. ولم يقدر الشارحُ على غير هذا الجواب. وعندي جوابُهُ لكنَّ الوقتَ لا يتحملُ بيانه وقد فَصَّلتُهُ في بَرْنَامجي. وقد يقال: إن في هذه الثلاثة إشكالاً ولا يتبادرُ الذهنُ إلى حصول الأجرين فيها، فإن المنساقَ إلى الذهن أن الإيمان طاعةٌ واحدةٌ، وإنما الفرقُ في الفروع، فاعتبار هذا الإيمان وهذا الإيمان ربما يفضي إلى التعجب، فتعرَّض إليه الحديث بأن الإيمان وإن كان واحداً إجمالاً، لكنه لما تعلق بنبيَ بخصوصه تفصيلاً، ثم تعلق بنبي آخر كذلك صار متعدداً باعتبار الشخص، فإنه إذا آمن بنبي فهذا عملٌ، ثم إذا آمن بنبي آخر في زمانه فهذا عمل آخر متجدداً. وكذلك يتوهم أن العبدَ عبدٌ لمولاه، فلعله لا يستحق الأجرَ في خدمته، وكذلك التزوج لنفعه فلا يكونُ عليه الأجر أيضاً. وقد يقال: إنه خصَّصَها بالذكر لأجل التنبيهِ والتحريضِ على هذين العَمَلين، فإن جمعهما عسير، لأن الكتابي إذا آمن بنبيه فالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلّم يَشُقُّ عليه. فنبه على أنه بهذا الإيمان لا يُحرمُ عن أجر إيمانه، بل يبقى إيمانُهُ معتبراً ومأجوراً عليه كما كان، بل يضعَّفُ أجره فيحصل مرتين. وكذلك العبدُ إذا اشتغل بخدمة مولاه، ربما لا يجدُ وقتاً لأداء الصلوات ولا أقل من أن يتعسر عليه، فحرَّضَهُ على أن يؤديَ حق الله أيضاً ليحصل له الأجران. وهكذا الأمر في تزوج الجارية، فإن الطبائعَ الفاضلةَ نافرةٌ عنها، فحرَّضَ على إعتاقِها والتزوج منها، ليحصل له الأجران. وتوهَّم بعضهم أن العبدان صلى فله أجران على صلاته، وليس كذلك، بل الأجران على العملين: أجرٌ على خدمةِ مولاه، وأجر على أداء الصلاة.
يريدُ أن التبليغَ لا يختصُ بالرجال، بل يعم النساءَ أيضاً. وكان هذا يومُ عيدٍ، ولعل التحريض كان في صدقَةِ الفِطر. قوله: «شنف» (بالى) قرط (در) أسعد الناس (يعني كسكى قسمت مين آب كى شفاعت زيادة بريكى). 99- قوله: (خالصاً) وأكثرُ الأحاديث ساكتةٌ عن هذا القيد، وهو معتبرٌ قطعاً. والخُلوصُ في اللغة: ما لا غِش فيه. وفي الاصطلاح: قريب من معنى الحنيف، ثم لا تعارضَ بينه وبين ما رُوي: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» فإن الأول فيمن يدخل في الشفاعة. والثاني فيمت يظهرُ في حقِّه النفع الكثير. وكذا لا يخالفُ ما عند البخاري ومسلم: «أن قوماً يخرجون بلا عمل عَمِلُوه بقبضة الرحمن ولا يكونُ خروجهم بيد النبي صلى الله عليه وسلّم فإنه يدل على أن شفاعته مختصةٌ بالعاملين. وأما الذين لا عملَ لهم فإنهم يخرجونَ بقبضة الرحمن، ولا تنفع الشفاعة فيهم مع وجود كلمة التوحيد عندهم. قلنا: إن الشفاعة نفعت لهم أيضاً، بيد أنَّ الرحمنَ توكَّل بإخراجهم ولم يفوضه إلى أحد، فهؤلاء أيضاً يخلصون عن النار ببركة الشفاعة، إلا أنهم لا يخرجونَ بيده الكريمة، بل يتولاهُم الرحمن بنفسه وقد بينا سره في كتاب الإيمان.
قوله: (أبو بكر بن حزم) قاضي المدينة دروس وحقيقته الفَنَاءُ بعد البِلى تدريجاً يعني برانا بن بيدا هونا أو رفنا هوتى جانا. والتحقيق عندي: أن كل شيء يمر عليه الزمان فإنه يندرسُ ويفْنَى تدريجاً، أي يَبْلى فيبلى ثم يَفْنى. ولذا ترى الأجساد أنها تندرسُ لأنها يمر عليها الزمان. ولما كان الله عز وجل لا تبلغُ شائبةُ الاندارس إلى جَنَابِ قُدْسِهِ، كان عالياً عن الزمان أيضاً. قوله: (وكتب عمر بن عبد العزيز) وهو أولُ من تهيأ لجمع العلم. قوله: (ينزعه) أي لا يسلب ما كان حاصلاً من قبل. قوله: (الفِرَبري) رحمه الله تعالى هو من تلامذة البخاري. وليس هذا من عبارة البخاري، إنما ألحقها صاحب النُّسخة، فهذا الإسناد عند الفِرَبري من غير طريق البخاري، وكثيراً ما يفعله الفربري، فإنه كلما يجدُ إسناداً غير إسناد البخاري يأتي به أيضاً.
101- (أبو سعيد) اسمه: سعيد بن مالك. 101- قوله: (من نفسك) يعني اجعل لنا يوماً من نفسك ومن عندك، لأنه لا يليقُ بنا أن نُعيِّنَه من عندنا. 101- قوله:(واثنين) عطفُ تلقين، وأثبت الحافظ رحمه الله تعالى أنه حكم الواحد أيضاً، فإن مفهومَ العدد لا يعتبر إجماعاً، نعم قد يعرضُ للمتكلم اعتباري في الذهن يكون سبباً لذكر العدد المخصوص، ولا يكون مداراً للحكم. وفي الحديث فيه قيد وهو «لم يبلغَ الحنث» والحِنْثُ في اللغة: ناشايان كام والمراد منه البلوغ، فلو كانوا بالغين فكذلك أيضاً، إلا أنَّ نفعَ الصبيان لعصمتهم وشفاعتِهم، ونفعَ البالغين لمزيدِ التأسفِ على وفاتهم والصبر عليهم.
هذا هو الترتيب الصحيح. ويردُ عليه سؤال عائشة رضي الله عنها. وحاصلُ جوابِهِ صلى الله عليه وسلّم أن الحسابَ اليسيرَ هو العَرْضُ فقط، والعذابُ لمن نُوقِش فيه. وانعكس الترتيب في بعض طرقِهِ كما يأتي في الصفحة الآتية. فقدم فيه قوله: «من نوقش عذب» ولا يتأتى عليه سؤالُ عائشة رضي الله تعالى عنها، فإنه لم يقل بالعذاب لمن حوسب، وإنما أخبرَ به لمن نُوقش، فلا سؤال، فاحفظه ولا تغفُل. فإن الحديثَ إذا وردَ بألفاظٍ مختلفةٍ فليؤخُذ بجميع ما ورد من طرُقِهِ ثم ليخْتَر أقربَ ألفاظه وأعجبها إلى الذوق والتبادر، فإن الرواية بالمعنى فاشيةٌ، والتغييرَ من الرواة معلومٌ. 103- قوله: (إنما ذلك العَرْض) واستفدتُ منه أنه يجوزُ للتفهيم تغييرُ عُنوانَ القرآن، كما غيره النبي صلى الله عليه وسلّم من الحساب اليسير إلى العَرْض، وهذا مهم فاعلمه. ثم العَرْض غير التعليم، قال الله تعالى: {وعَلَّم آدمَ لأَسماءَ كُلها ثم عَرَضَهُمْ على الملائكة} (البقرة: 31) فآدم معلَّم والملائكة معروضٌ عليهم. ولم يعلمهم من أسمائها شيئاً فلا إشكال في حديث عَرْض الأعمال.
قوله: (أبو شريح) صحابي. (عمرو بن سعيد) والي المدينة من جهة يزيد: ولم يذكر المحدثون سُوء حاله، إلا أني رأيت حكايةً بالإسناد تدلُّ على شَقَاوتَه، حتى أخشى عليه سلبَ الإيمان، فلا أدري هل خفيتْ عليهم أو ماذا؟ وكيفما كان ذِكرُهُ ههنا في ذيلِ القصة لا أنه راوي الحديث ليعدّ من رواة الصحيح. ثم إن المسألة عندنا فيمن جَنَى خارج الحرم، ثم التجأ إليه، أنَّ جنايتَه لو كانت في الأطراف يُقتصُ منه في الحرم. فكأنها جعلت في حكم الأموال. وإن كانت في النَّفْس لا يُقتص منه في الحرم، ويُلجأ إلى الخروج حتى يُقتص منه. وعند الشافعية يقتص في الحرم، فحَرُمةُ الحرمِ أزيدُ عندنا من الشافعية. وتمسك الحافظ رحمه الله تعالى بقول عمرو بن سعيد. قلت: وأنا راض على هذا التقسيم، فإن الصحابيَّ في هذا الحديث يُوافقَنا في المسألة. 104- قوله: (ولا يعضد) وراجع لتفصيله «شرح الوقاية» من الجاف والمنكسِرِ والنابت بنفسه، وعدمُ كونه مما ينبتُهُ الناس. 104- قوله: (ساعة من نهار) وهي من طلوع الشمس إلى الغروب كما في «مسند أحمد». 104- قوله: (الخَرْبَة) في الأصل سرقة الإبل، ثم عمَّم. وفي بعض النُّسخ: الخزية بمعنى رسوائي وراجع «دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة للحبيب» فإنه تكلم في هذا الحديث كلاماً حسناً. وكتب أن الإمامَ أبا حنيفة رحمه الله تعالى قد فَهِمَه حق الفهم، وكان مصنفه من علماء السند، وأصله من الكشمير، وأجازه الشاه ولي الله قُدِّس سره بالكتابة، وحرر له أني أجيز لك ولمن كان لها أهلاً من أهل بلدك- وقد تكفل بطبعه غير المقلدين في زماننا، لأن مصنف الدراسات أيضاً لم يكن مقلداً، إلا أنه لم يكن متعصباً مثل هؤلاء، فإذا وجد كلمةَ حقٍ أقرَّ بها كما فعل ههنا- فإنه مدح الإمام على أنه هو الذي أدى حق الحديث وعمل به بدون تخصيص ولا تأويل. 104- قوله: (إن الحرمَ لا يعيذُ عاصياً) قلت: هو من باب كلمةِ حق أريدَ بها الباطل، فإنه لا يصدُقُ على ابن الزبير أصلاً، بل يصدقُ عليه وعلى يزيد. وملخص القصة أن معاويةَ رضي الله عنه لما ولى يزيد أنكرَ عبد الله بن الزبير وأصحابَه أن يُبَايعوه ورحلَ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه إلى مكة، فاستخلف بعدَه مروان، ثم عبد الملك، فولى عبد الملك الحجاج المبير ظالمُ هذه الأمة، فتولى قتْلَ ابن الزبير رضي الله عنه وفعلَ ما فعل، وأحرقَ قرناً كَبْش إسماعيل عليه الصَّلاة والسَّلام، وتهدمت حِصةٌ من البيت أيضاً، والعياذ بالله. 105- قوله: (وكان محمد) جملةٌ معترِضةٌ ومعناها: تصديقُ ما أخبرَ به النبي صلى الله عليه وسلّم من أنه وَقَعَ كما أخبر. وثبت أن رُبَّ غائبٍ أحفظ من السامع.
|